سائد أبوعبيد: اللغة العربية الفصحى هي المقاومة التي لم ينجح العبري في سلبها من أهلها.

سائد أبوعبيد: اللغة العربية الفصحى هي المقاومة التي لم ينجح العبري في سلبها من أهلها.
القاهرة – وكالة انباء الاهرام الدولية
حوار أحمد سالم
في رحابِ الكلمةِ الصادقة، وعلى ضفافِ نهرِ الشعرِ الذي لا يجفّ، نستضيفُ اليوم قامةً أدبيةً شامخةً، ولساناً فلسطينياً ناطقاً بالوجعِ والأمل. إنّه الشاعرُ الذي اتخذ من قضيتهِ نبضاً، ومن تُرابِ وطنهِ مداداً، فكانت قصائدُهُ خيلاً أصيلاً، تجوبُ سماءَ العروبةِ حاملةً صرخاتِ الصمودِ وبشائرَ العودة، لقد ارتبط الشعرُ الفلسطينيُّ، منذ فجرِ النكبةِ وحتى اليوم، بالهويةِ والمقاومة، فغدا سجلاً خالداً لتاريخِ شعبٍ لا يرضخُ ولا ينسى.
نسعدُ أيّما سعادةٍ بالحديثِ مع ضيفنا الكريم الساعر الفلسطيني سائدأبوعبيد، لنغوصَ معه في أعماقِ تجربتهِ الإبداعية، ونتلمسَ مساراتِ قصيدتهِ التي ارتوت من ماءِ فلسطين، وتناولت شجونَ الأمةِ وهمومَ الإنسان.
بداية الحمد لله على ثبات شعبنا وصبره على أوجاعه وتحمله هذا النزف والألم الذي امتد قرابة الثمانية عقود عاشها وحيدًا في احتضان أَوجاعه منتصرًا لنفسه بنفسه مقاومًا محاولات الطمس لذاته وهويته ومقدساته، واليوم يخرج شعبنا من حرب بشعة ضد وجوده استشهد فيها أكثر من سبعين ألف فلسطيني وآمالهم وأحلامهم وذكرياتهم وحكاياتهم، فالوجدانية الفلسطينية التي استشهدت معم هي أيضًا خسارات أخرى للرواية الفلسطينية التي تسكن في نفوس حامليها من الشهداء، ولكننا نتوسم دائمًا بالورثة الذين يلحقون دربهم ويحملون في نفوسهم الصوت والحلم والأمل الذي ينبثق من الإنسان للإنسان ليظل هذا الشعب الهوية الحية التي تتورقُ في الحياة على الرغم من أيدي الموت التي تسرقنا عبر النار والبارود والرصاص.
عرفنا عن نفسك برؤوس أقلام؟
أنا لغة تتفاعلُ فيَّ وفي ذاكرتي وخيالي وشعوري، فأراني بها حازمًا تعاريف ذاتي التي أَستحسن صوتها وصورتها وأداءها، ومتبَصِّرًا بها كل أملٍ يسكنني الآن وصداه في شرفة الوقت القادم في المستقبل، أما عن اسمي في الهوية فهو سائد شحادة أحمد أبو عبيد من مواليد 20\7\1973 في بلدة اليامون قضاء جنين التي تتوثب المرج الفلسطيني، المعروف باسمِ مرج ابن عامر، متزوج ولي خمسة أبناء يقمرون حياتي بوجودهم ويثرون مفردة الحب التي تسكنني ويمنحون نفسي طمأنينة ببقائهم وبقربهم وبما أجده فيهم من جماليات وأثر حسن في نفوسهم وسلوكهم.
يُعرف الشعر الفلسطيني بأنه “ديوان العرب” الحديث والمحرك للوجدان، كيف ترى دور الشاعر اليوم؟ هل ما زال الشعر قادراً على أن يكون فعل مقاومة بحد ذاته، أم أن الأدوات تغيرت؟
الشعر هو واحد من أدوات المقاومة الوطنية الفلسطينية والذي يبرز بشكل كبير في الشاعر الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، وأيضًا العالمي الذين يكتبون لفلسطين وعن فلسطين، أما الشاعر الفلسطيني الذي ينحاز حبًّا لقضيته المقدسة والتي يحملها شعوره ويبثها كلٌّ من لغته ومفرداته التي تتوسم بفلسطين الأرض والشجر والحجر والبحر والتي تعبق بعطر البيوت التي سقطت ذات يوم على احتراقات النكبة والنكسة في عموم الأرض الفلسطينية من رأس الناقورة إلى رفح.
هذا الشعر مازال ملتِهبًا بالجروح ورطبًا بالنزف وعاطرًا بالحنين الوطني إلى قرانا ومدننا وكرومنا التي سلبها الاحتلال من أهلها الحقيقيين والذين مازالوا هناك هوية مشرقة بعروبتهم وبرأيي هم انتصار قديم حديث يثبت أن الفلسطيني مازال ولم يسقط ولم تطمس هويته.
كيف يوفق سائد أبو عبيد بين كونه أمين سر المكتب الحركي المركزي لاتحاد كتاب وأدباء فلسطين، وبين كونه شاعراً مرهف الحس يكتب عن “وشوشات الجرح” و”تراتيل الروح”؟ هل الالتزام التنظيمي يحد من حرية النص الشعري؟
الشعر هو المساحة الكبرى في حياتي والتي أُطوِّعُ بها اهتمامي وانتباهي ولا أسمح لأي شيء أن يسرق هذا الانتباه بعيدًا عنه، بل أقوم بالفعل التنظيمي مستندًا على أثر الشعر الذي يضبط سلوكي في الكثير من الأفعال، فلا يعلَّلُ الشعرُ بشيء ولا يسرقني منه شيء، بل هو من يمنح ذات الشاعر رهافة التعامل واللغة الندية الشذية التي تخدم التنظيم.
بصفتك أسير سابق في الانتفاضة الأولى، هل تلاحظ اختلافاً في الهموم والمفردات الشعرية بين جيلكم الذي عاش تجربة الأسر والانتفاضة، وبين جيل الشباب الفلسطيني المعاصر؟ وما هي ملامح الشعر الجديد؟
مدارج الشعر الفلسطيني هي نفس المدارج والإيقاعات هي نفسها والانتباهاتُ أيضًا هيَ هيَ، فالأسرُ الذي خطف الفلسطيني إلى باستيلات الاحتلال ومعتقلاته وسجونه منذ أن احتلت فلسطيني مازال للآن يخطف شبابنا ونساءنا وأطفالنا إلى الأقبية والمعتقلات، وكذلك القتل هو القتل منذ إراقة دم أول فلسطيني إلى الآن والسرقة هي ذاتها التي تحتل الأرض منذ أول دخول إلى أرضنا الفلسطينية عبر آليات وجنود الاحتلال، فلذا الملامح الشعرية هي ذات الملامح ولكنها ازدادت بالكثير من سفك الدم والأنفس وفاضت الأوجاع والحنين على التجربة الشعرية ويهتف الآن وبشدة الأمل والخلاص أيضًا في القصائد.
مع تزايد محاولات طمس الهوية، كيف ترى أهمية اللغة العربية الفصحى في الشعر الفلسطيني كوسيلة للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية والوجود؟
اللغة العربية الفصحى هي لغة الشعب العربي الفلسطيني، وهي اللغة التي تقاوم نقيضها العبري الذي لم ينجح في سلب اللغة من أهلها، وما يكتبه شعراء فلسطين عبر اللغة العربية والمفردات التي تحمل معالم الوطن وأسماء الأمكنة وما ينبت فيها تبقي ذاكرة المكان والزمان متنصِّعة في الوجدان الفلسطيني الزاخر بفلسطينيته، فالبيوت، وبهوها والعلِّيَّات والشُّرف والقناطرُ والبيادر والحدائق والعرائش والخابية والمآذن والقباب والكنائس والأجراس والفنار، والسريس والميرمية والزعتر وعصا مريم والنرجس والدحنون والجوري والياسمين والريحان والنعناع والسرو والصنوبر والزيتون والنخل وكروم العنب والبرتقال، والكثير من المفردات التي يستخدمها الشاعر عبر الذاكرة التي تسكنه عن فلسطين وعن ما احتلَّ منها وسرق منذ عام 1948 إلى اليوم كلها مفردات تكشف فلسطينية الأرض الخالصة والناصعة.
تجربة الأسر هي من أغنى وأصعب التجارب التي تشكل وجدان الشاعر، كيف انعكست تجربة الأسر عليك كإنسان، وإلى أي مدى شكلت مرجعية لـ “عطش الروح” في قصائدك؟
الأسر هو واحد من شعور الفقد والحنين، ففيه تفيض الذكريات والوجوه المقمرة في الأهل والأصحاب على الرغم من عتم السجن الذي كان يحول بيننا وبين الأهل والأحباب، وهناك في ذلك الوقت المشحون بحنين المعتقلين وذكرياتهم كنت أمارس كتابة الرسائل إلى ذوي الأسرى من وراء القضبان، وكان يجد الأسرى في اللغة التي أكتبها اللغة القريبة المحببة لهم والمشحونة بالتجلد والصبر والدعوة على الحلم والأمل باللقاء القريب، وهنا أشعر أنني خسرت مئات النصوص التي كتبتها ولم أوثقها في كتاب، فكل رسالة كانت تحمل أشواق شخص مختلف وقصة مختلفة عن الأخرى ولكنها كلها تتشارك بلغة الحب والحنين والصبر والدعوة إلى الانتظار للقاء حتمي يجمع الأسير وأهله على أرضه وبيته، هذه التجربة كانت أهم تجربة لي في ممارسة الكتابة بشعور ساخن بالحب والذكريات، كما كنت أكتب بيانات الأقسام التي كانت تشحن نفوس الأسرى وتشجعهم على التحمل والصبر، وأذكر أنني كنت أكتب بيانات سجن النقب عام 1990 والتي كنت أهيئُ بها الأسرى إلى خوض إضراب عن الطعام لتحقيق متطلبات الأسير التي كانت تنقصه حينها وقد نجحت في هذه المهمة ونجح الإضراب الذي يرجع نجاحه الأساسي إلى إرادة الأسير نفسه، وهذه التجربة في الكتابة دفعتني للكتابة في إذاعة القدس على تحرير الأرض والإنسان والتي كانت تقرأ نصوصي عبر هذه الإذاعة في أيام الانتفاضة الثانية\ انتفاضة الحجارة التي انطلقت عام 1987.
شاركت في مهرجانات دولية في المغرب وتونس ومصر والأردن، كيف أثر التفاعل مع ثقافات ومهرجانات عربية مختلفة على رؤيتك الفنية ومواضيعك الشعرية؟
المشاركات الشعرية هي إضافة مهمة للشاعر سواء كان بمعرفة الأسلوب الشعري لدى الشعراء العرب في أقطارنا العربية أو المفردات المستخدمة عندهم مع وجود شبه كبير، وأيضًا هذه المشاركات واللقاءات هي تلاحم عاطفي ونفسي نثب به إلى رؤية شعرية وطنية وحلم عربي واحد نحو الحرية، والعدالة، والتحرير، والخلاص.